طول الأمل
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] ، وقال تعالى : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد:20] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ : ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ )) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ [1].
إن في هذا الحديث الشريف الحث على تقصير الأمل في الدنيا ، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن فيها ، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر همّه جمع جهازه للرحيل .
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً ؟ فَقَالَ : (( مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)) [2].
وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن الحسن أنه قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : ((إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء ، لا يدرون ما قطعوا منها أكثر أم ما بقي منها ، فحسر ظهرهم ، ونفد زادهم ، وسقطوا بين ظهراني المفازة ، فأيقنوا بالهلكة ، فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة ، يقطر رأسه ، فقالوا : إن هذا لحديث العهد بالريف ، فانتهى إليهم ، فقال : ما لكم يا هؤلاء ؟ قالوا : ما ترى ، حسر ظهرنا ، ونفد زادنا ، وسقطنا بين ظهراني المفازة ، ولا ندري ما قطعنا منها أكثر أم ما بقي علينا ؟ قال : ما تجعلون لي إن أوردتكم ماء رواء ، ورياضا خضرا ؟ قالوا : نجعل لك حكمك ، قال : تجعلون لي عهودكم ، ومواثيقكم أن لا تعصوني ، قال : فجعلوا له عهودهم ، ومواثيقهم أن لا يعصوه ، فمال بهم ، وأوردهم رياضا خضرا ، وماء رواء ، فمكث يسيرا ، ثم قال : هلموا إلى رياض أعشب من رياضكم هذه ، وماء أروى من مائكم هذا ، فقال جل القوم : ما قدرنا على هذا حتى كدنا أن لا نقدر عليه ، وقالت طائفة منهم : ألستم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ، ومواثيقكم أن لا تعصوه ، وقد صدقكم في أول حديثه ، فآخر حديثه مثل أوله ، فراح وراحوا معه ، فأوردهم رياضا خضرا ، وماء رواء ، وأتى الآخرين العدو من تحت ليلتهم ، فأصبحوا من بين قتيل وأسير)) [3].
فهذا المثل العظيم في غاية المطابقة لحاله صلى الله عليه وسلم مع أمته ؛ فإنه أتاهم والعرب إذ ذاك أذل الناس وأقلهم وأسوأهم عيشاً في الدنيا والآخرة ، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة ، وظهر لهم من براهين صدقه كما ظهر من صدق أمر الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة ، وقد نَفِدَ ماؤهم ، وهَلَك ظهرهم فدلهم على الماء والرياضِ المُعشِبة ، فاستدلُّوا بهيئته وجماله وحاله على صدق مقاله فاتبعوه ، ووعدَ من اتَّبعه بفتح بلاد فارس والروم وأخذِ كنوزهم . وحذَّرهم من الاغترار بذلك والوقوف معه ، وأمرهم بالاجتزاء من الدُّنيا بالبلاغ ، والجدِّ والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها ، فوجدُوا ما وعدهم به كلَّه حقاً ، فلما فُتِحتْ عليهم الدُّنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثرُ الناسِ بجمعها واكتنازها والمنافسة فيها ، ورَضُوا بالإقامة فيها والتمتُّع بشهواتها ، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجدِّ والاجتهاد في طلبها . وقبلَ قليلٌ من الناس وصيَّته في الجدِّ في طلب الآخرةِ والاستعداد لها . فهذه الطائفةُ القليلة نجت ولحقت نبيَّها صلى الله عليه وسلم في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدُّنيا ، وقبلت وصيتهُ وامتثلت ما أمر به . وأما أكثر الناس فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها ، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتّى فاجأهم الموتُ بغتةً ، فهلكوا وأصبحوا ما بين أسير وقتيل [4].
ومن أبلغ الأمثلة للحياة الدنيا ما ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال : (( إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ )) ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا وَثَنَّى بِالْأُخْرَى ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا يُوحَى إِلَيْهِ ، وَسَكَتَ النَّاسُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ ثُمَّ إِنَّهُ مَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ الرُّحَضَاءَ فَقَالَ : (( أَيْنَ السَّائِلُ آنِفًا أَوَخَيْرٌ هُوَ ؟ - ثَلَاثًا - إِنَّ الْخَيْرَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِالْخَيْرِ ، وَإِنَّهُ كُلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ إِلَّا آكِلَةَ الْخَضِرِ كُلَّمَا أَكَلَتْ ، حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ ثُمَّ رَتَعَتْ . وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَجَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ كَالْآكِلِ الَّذِي لَا يَشْبَعُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) [5] .
إنَّ الدنيا لا تذم لذاتها وإنما يذم فعل العبد فيها ، فالدنيا قنطرة ومعبرة إلى الجنة أو إلى النار ، فهي مزرعة الآخرة ومنها زاد الجنة ، وخير عيش ناله أهل الجنة إنما كان بسبب ما زرعوه في الدنيا ، قال تعالى : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة:24] .
إنَّ الذم والوعيد إنما ورد في حق من آثر الدنيا على الآخرة فصارت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه ، قال تعالى : {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-39] . فالمطلوب من العبد الاعتدال في العمل للدنيا والآخرة ؛ لا يشتعل بالدنيا ويترك الآخرة ، ولا يتخلى عن الدنيا ويتركها بالكلية فيضر بنفسه وبمن يعول ، أو يصبح عالة على غيره .
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا .